في الحلقات السابقة حول الجامعة، تم طرح الكثير من الأسئلة حول مشكلات مزمنة في منظومة التعليم الجامعي. سأحاول في هذه الحلقة مقاربة ظاهرة الغش كظاهرة مركبة و غريبة ومرضية، تستوجب رصد أسبابها ومظاهرها وتحديد الآليات المعتمدة لممارستها وآثارها المدمرة لصورة الجامعة والجامعيين، بل ولصورة المجتمع في شموليته. هي ظاهرة شكلت دائما وباستمرار موضوع الحديث داخل أسوار الجامعة وخارجها، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، في أوساط الجامعيين وغير الجامعيين.
إن الصمت عن الظاهرة وعدم فتح النقاش العمومي الهادئ بخصوصها، قد يشكل تعبيرا ضمنيا عن التسليم بواقع الحال و مساهمة في تحفيز من يحترفها. كما أن السكوت عن قول كلمة حق بخصوصها هو تشجيع لها ومساهمة غير مباشرة في استفحالها.
غير أنه لابد من التأكيد منذ البداية، على أن هذه المقالة لا تسع لتفكيك جميع العناصر المرتبطة بمعالجة ظاهرة الغش وفهمها وتحليلها واستشراف مستقبل الجامعة والمجتمع في ظل استفحالها. فالمقاربة الشاملة تستوجب الرصد الدقيق للأسباب العميقة للظاهرة، ومظاهرها وأشكالها وآثارها، والمقاربات الممكنة لمعالجتها، والأطراف الفاعلة فيها، والتقنيات والطرق المعتمدة لممارستها، وعلاقتها البنيوية مع مظاهر الغش الأخرى في إطار النسق المجتمعي العام. وهو ما يفرض الاستمرار في عملية البحث والنقاش من أجل التأسيس لمقاربة شاملة على المستويين النظري والتطبيقي.
في هذا الإطار، ارتأيت أن أساهم في النقاش العمومي لهذه الظاهرة من خلال الإشارة لأربعة عناصر أساسية، تاركا المجال للباحثين للمساهمة بأفكارهم، في هذا الإطار:
1.أسباب الظاهرة: إنظاهرة الغش هي نتاج مزيج من العوامل والأسباب الذاتية والموضوعية. فالأسباب الذاتية ملازمة للميل الطبيعي إلى الكسل والخمول والاتكال والتواكل، علما بأن الغشاش لا يشعر بالطمأنينة والراحة النفسية أثناء ممارسته لعملية الغش. وهو ما يجعله يعيش حالة نفسية مضطربة أثناء فترة الامتحانات، تدفعه في بعض الحالات إلى فقدان التوازن ليعتمد أساليب العنف والترهيب والبلطجة ضد أستاذه أو غيره.
هذا الميل الطبيعي، له علاقة بأسباب موضوعية مرتبطة بالنسق المجتمعي العام، تتداخل وتتفاعل فيه مجموعة من العناصر، بحكم الوظيفة الجوهرية لمجموعة من الفاعلين. يتعلق الأمر:
بوظيفة الأسرة وقدرتها على تحمل مسؤولية التربية على قيم الجد والاجتهاد والاعتماد على النفس واستحضار الوازع الديني والأخلاقي.
بوظيفة المدرسة (أي التعليم ما قبل الجامعي واختلالاته) وقدرتها على أداء وظيفتها في غرس قيم المواطنة الحقة من خلال البرامج الدراسية والأنشطة الموازية.
بوظيفة المجتمع بكل سياقاته ومستوياته وبنياته في احتضان الطفل وتوفير كافة الظروف لجعله شابا قادرا على ولوج أسوار الجامعة بثقة وكرامة وعزة نفس.
2.الآليات والطرق: يعتمد الغشاشون أثناء الاختبارات أساليب تتأرجح بين التقليدي(ما يسمى في قاموسهم بالحروز، أو استعمال المطبوعات ووضعها أسفل الطاولة، أو الكتابة على الطاولة أو الكتابة بشكل مصغر في ورقة الاستدعاء للامتحان، أو تبادل الأوراق المخصصة لتحضير الأجوبة بين الطلبة….). أما الأساليب الحديثة والتي تعتبر أكثر استعمالا في السنوات الأخيرة، فهي تنهل من قاموس التقنيات والتكنولوجيات الرقمية(تبادل الأجوبة باستعمال الهاتف النقال والعدسات والساعات الذكية وتطبيقات whatsapp وInstagram. كما تطورت الطرق والأساليب فظهرت شبكات ومجموعات متخصصة في تقديم الدعم والمساعدة لمن يرغب في الخدمة عن قرب أو عن بعد…).
3.الآثار والنتائج: استفحال ظاهرة الغش في الامتحانات الجامعية هو تعبير عن الخرق السافر لمبدأ تكافؤ الفرص. بحيث يتم تمكين الغشاشين من علامات وشهادات غير مستحقة ودون وجه حق. كما أن تمكين الغشاشين من الحصول على الشهادات الجامعية وبالتالي ولوج أسلاك الماستر والدكتوراه، هو تعدي على حقوق ومستقبل فئات عريضة من الطلبة المجدين والمجتهدين. تبعا لذلك، فولوج الغشاشين، بعد تمكنهم من الشهادات العليا الغير المستحقة، لسوق الشغل وحصولهم على الوظائف وتقلدهم للمسؤوليات، وربما ولوجهم للجامعات، باعتماد نفس الأساليب الغير السليمة، سينجم عنه إعادة إنتاج ظواهر مركبة وأكثر تعقيدا وألما. بل ستترتب عنه آثار مدمرة لجودة الخدمات العمومية وستتأثر صورة الجامعة والجامعيين سلبا وبشكل عميق.
4.المقاربات والحلول الممكنة: إن اجتثاث ظاهرة الغش في الامتحانات، يستوجب أكثر من مقاربة وأكثر من طريقة. فهي ظاهرة معقدة ومركبة لها علاقة بنيوية بخصوصيات ومميزات وبنية النسق التربوي بشكل خاص، والنسق المجتمعي بشكل عام. وهو ما يدفع إلى التمييز بين المقاربات الوقائية والمقاربات الزجرية.
أما المقاربات الوقائية، فهي تدخل في صميم مسؤوليات ووظائف عدد من الفاعلين في التعليم ما قبل الجامعي و فاعلين آخرين. في هذا الإطار، يمكن للمدرسة العمومية والخصوصية أن تلعب دورها وتؤدي وظيفتها في التربية على قيم الجد والاجتهاد والسلوك الحسن والأخلاقيات، وإدماجها في البرامج الدراسية والتربوية والترفيهية. أما الأسرة التي تعتبر النواة الأولى للبناء المجتمعي السليم، فلا يمكن إلا أن تتحمل المسؤوليات العظمى في تربية الأبناء على القيم والأخلاقيات والانضباط والسلوك الحسن، سواء في إطار العلاقات الأسرية أو في إطار التعاون مع الأندية التربوية وجمعيات المجتمع المدني.
على مستوى التعليم الجامعي، لا شك أن المقاربات الوقائية، وإن كانت فعاليتها محدودة في اجتثاث الظاهرة، فإنها تكتسي أهمية قصوى في التخفيف من حدتها وتطويقها على الأقل لتخفيف الضرر اللاحق بصورة الجامعة والجامعيين. هذه المقاربات، تستوجب اتخاذ مجموعة من التدابير القبلية والتحضيرية والعملية، لضمان سير عمليات التقويمات في ظروف آمنة وسليمة ومريحة. لكن قبل ذلك، لابد من التأكيد على أهمية مراجعة بعض الآليات والطرق المعتمدة في عمليات التقييم(أسئلة مباشرة، أسئلة ذات الأجوبة متعددة الاختيارات….) التي غالبا ما تشجع عمليات الغش، في غياب آليات الضبط التي سنعرضها في ما يلي:
تعبئة القاعات والمدرجات الكافية لاستيعاب الأعداد الهائلة من الطلبة وتوزيعهم في إطار احترام الطاقة الاستيعابية وتفادي الاكتظاظ.
تعبئة وتحفيز الموارد البشرية الكافية(مشكل التأطير والنقص المهول في الأطر) لضمان مراقبة عمليات التقويم، وضمان الالتزام واستحضار الأخلاقيات المهنية أثناء سيرها، واتخاذ التدابير التقويمية التأديبية في حالة الإخلال بقواعد المسؤولية.
التزام الإدارة بالقيام بجميع العمليات التنظيمية الخاصة بالتقويمات في الوقت المناسب.
المنع الكلي لأي طالب لا يحمل الوثائق المثبتة للهوية من ولوج أسوار الجامعة أو المدرجات والقاعات.
المنع الكلي لاستعمال الهاتف النقال وكل الآليات التكنولوجية الأخرى.
اعتماد التطبيقات الذكية الكاشفة لهوية الطلبة في المدرجات والقاعات لتفادي حالات انتحال الصفة ولضمان حسن تدبير عامل الزمن.
تثبيت كاميرات المراقبة وأجهزة تشويش الهواتف المحمولة في كل القاعات والمدرجات والبنايات.
أما المقاربات الزجرية، التي تعتمد آليات العقاب والردع كوسيلة لمحاربة الغش، فتشمل الحرص على تحرير المحاضر بخصوص حالات الغش التي يتم ضبطها، وإحالتها للمصالح الإدارية المختصة لتفعيل المسطرة أمام المجالس التأديبية، صاحبة القرار في إصدار العقوبات الزجرية المناسبة طبقا للقانون. كما تشمل إمكانية تفعيل إجراءات المتابعة أمام المحاكم المختصة في حالة ارتكاب أعمال البلطجة والعنف المادي أو المعنوي، ضد القائمين والمشرفين على سير الامتحانات.
غير أن الظروف المحيطة بعمليات التقويم وضعف أعداد الأطر المكلفة بالمراقبة والتتبع والإشراف، وغياب شروط الأمن والسلامة الجسدية في سياق التصرفات البلطجية وحالات اللاتوازن النفسي التي سبق الحديث عنها، وضعف الدور الذي تقوم به لجان الامتحانات، وغياب الحزم اللازم لدى الجهاز الإداري في تدبير المحاضر الخاصة بالغش والبث فيها بالسرعة اللازمة، كل هذه العوامل تجعل مهام ووظائف ومسؤوليات القائمين على المراقبة أكثر صعوبة، إن لم تكن مستحيلة.
هذه الظروف ومجمل التدابير السالفة الذكر، تستوجب تعبئة جهود كافة الفاعلين التربويين والإداريين والطلبة، بل وكل الجهات المختصة لتحمل مسؤولياتها، في حماية قداسة الحرم الجامعي والحرص على سمعة الجامعة والجامعيين والدفاع عن القيم المجتمعية النبيلة.
(يتبع ..)
لقراءة الخبر من مصدره: